اقتراب الثقافة السياسية

يتأثر أي نظام سياسي بالبيئة المحيطة به. وبدورها تلعب الثقافة السياسية جزءاً مهماً في تحديد طبيعة هذه البيئة عبر المدخلات النابعة من البيئة، وعبر توقعات الأفراد والجماعات المكونة للمجتمع من النظام السياسي، والمطالب التي يضعونها على كاهل هذا النظام.

فالثقافة السياسية تشكل جزءاً مهماً من البيئة أو الوسط الذي يُحدث فيه السلوك السياسي. ومن هنا يهدف أنصار اقتراب الثقافة السياسيَّة إلى الفهم الواضح والمنظم للسلوك السياسي عبر الثقافة السياسية في المجتمع.

الافتراضات الأساسية التي يرتكز عليها الاقتراب:

ينطلق أنصار هذا الاقتراب من افتراض أنَّ هناك علاقة بين الثقافة السياسية والسلوك السياسي باعتبار أنَّ السلوك السياسي هو وليد الثقافة السياسية في المقام الأول. وعليه، فإذا أراد الباحث أن يفهم الواقع السياسي أو السلوك السياسي في مجتمع ما فلابُدَّ له من أن يفهم الثقافة السياسية في هذا المجتمع.

وبإعتبار أنَّ الثقافة السياسية السائدة هي التي تحدد السلوك السياسي، فقد نُظِرَ إلى الثقافة السياسية باعتبارها المتغير المستقل الذي يؤثر على النظام السياسي أو السلوك السياسي باعتباره متغيراً تابعاً، بما يعنيه ذلك؛ أنَّه إذا حدث تَغَيُّرَاً في الثقافة السياسية فإنَّه يترتب عليه تغيراً في السلوك السياسي.

وكما أنَّ للظاهرة الاجتماعية ثلاثة أبعاد: بُعد اجتماعي وبُعد اقتصادي وبُعد سياسي، فأنَّ للثقافة العامة للمجتمع أبعادها أيضاً. ومن ثُم فهناك الثقافة الاجتماعية والثقافة الاقتصادية، والثقافة السياسية. أي أنَّ هذه الأخيرة هي جزء من الثقافة العامة للمجتمع. ويقصد بها منظومة العادات والتقاليد والمعتقدات والقيم السائدة في مجتمع ما صوب النظام السياسي، والتي تتحدد بناءاً عليها أشكال النقاش السياسي.

فالمنظومة السياسيّة ليست فطرية بل مكتسبة وتراكمية مُتغيرة غير ثابتة من خلال التنشئة السياسية. وبذلك؛ تكون الثقافة السياسية هي نتاج التنشئة السياسية. والتنشئة السياسية هي عملية يتم بمقتضاها نقل القيم والأفكار والمعتقدات من جيل لآخر. ويقوم بذلك عدد من مؤسسات التنشة مثل الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام وغيرها.

المفاهيم الأساسية لاقتراب الثقافة السياسية:

الثقافة السياسية:

وتعد بمثابة المفهوم المحوري الذي سُميَّ الاقتراب على أساسها وقد أدخل جابرييل ألموند – Gabriel Almond هذا المفهوم إلى نطاق التحليل السياسي في عام 1956  عندما نشر مؤلفاً بعنوان ”الثقافة السياسية“.

حيث عرَّف جابرييل ألموند – Gabriel Almond الثقافة السياسية بأنَّها: ”توجهات واتجاهات الغالبية العظمى من أفراد المجتمع صوب النظام السياسي في كلياته وجزئياته وكذا رؤية الفرد لدوره في النظام السياسي“.

ومن هذا المنطلق يثير اقتراب الثقافة السياسية مجموعة من التساؤلات: كيف ينظر الأفراد إلى النظام السياسي ككل بصفة عامة؟

وما هي نظرتهم إلى مختلف مكونات النظام السياسي سواء من حيث الدور الذي تضطلع به ومدى قدرته على تحقيق هذا الدور؟

كيف يرى الفرد دوره في النظام السياسي؟ وإلى أي حد يرى أنَّه ينبغي عليه أن يلعب دوراً وأن يشارك في الحياة السياسية؟

 

التوجهات Orientations:

يشير التوجه إلى كل ما هو كامن ودفين في النفس البشرية نتيجة التنشئة. قد يدركها الفرد وقد لا يدركها. وتؤثر توجهات الأفراد على اتجاهاتهم ومن ثم على سلوكهم فإذا ما نشأ الفرد في بيئة متدينة مثلاً فإنَّ هذا يخلق لديه توجهاً دينياً وبالتالي تتحدد اتجاهاته وسلوكياته في هذا الإطار.

التوجهات إذن هي الإتجاهات قبل أن تُعَبِّرْ عن نفسها بصورة محددة والإتجاهات هي التوجُّهات وقد عَبَّرَتْ عن نفسها تجاه موقف محدد. ومن ثم، فهما مرتبطين ببعضها البعض ارتباطاً وثيقاً. وليس من الغريب إذن أن يعرف ألموند الثقافة السياسية بأنها التوجهات والإتجاهات صوب النظام السياسي بصورة عامة، أو إحدى جزئياته، أو التوجهات والاتجاهات صوب رؤية الفرد لدوره في هذا النظام.

وفي إطار تطويرهم لاقترب الثقافة السياسية استنادا كلاً من ألموند وسيدني فيربا – Sidney Verba من دراسات كل من تالكوت بارسونز – Talcott Parsons  وادوارد شيلز – Edward Shils في حقل الإجتماع السياسي حول مكونات التوجهات الثلاثة: الإدراكية والعاطفية والتقيمية. ترتبط الأولى بالإدراك والفهم وترتبيط الثانية بالمشاعر وترتبط الثالثة بالتقييم والإختيار.

في ضوء دراسات تالكوت بارسونز – Talcott Parsons  وادوارد شيلز – Edward Shils ميَّزَ ألموند وفيربا بين ثلاثة أشكال من التوجهات السياسية على النحو التالي:

– التوجه الإدراكي: ويقصد بذلك المعرفة بخصوص النظام السياسي والأدوار المنوطة به وشاغلي هذه الأدوار. وكذا مدخلات النظام ومخرجاته…الخ.

– التوجه العاطفي: ويقصد بذلك مشاعر الأفراد تجاه النظام السياسي ككل أو أي من أجزائه ومكوناته من كره وحب.

– التوجه التقييمي: ويقصد بذلك الأحكام والأراء التي يصدرها الأفراد عن النظام السياسي، والتي تتحدد بناء على إدراكهم ومعرفتهم بالنظام السياسي ومشاعرهم صووبه.

واستناداً إلى ذلك، ميَّزَ الموند وفيربا بين ثلاثة أنماط مثالية من التوجهات السياسية وهي:

1 – التوجهات السياسية الضحلة أو الضيقة:
وتسود المجتمعات التقليدية حيث لا وجود للأدوار السياسية المتمايزة، وحيث لا وجود للتخصص ويمكن للفرد بأن يقوم بأكثر من دور أو وظيفة مثل شيخ القبيلة الذي يلعب دور المشروع والحاكم والقاضي والقائد العسكري. وتتسم التوجهات السياسية الضحلة بـ:
– غياب توجهات الأفراد صوب النظام السياسي أو ضعفها على أساس إدراك أن النظام السياسي لن يستجيب لمطالبهم.
– ومن ثم تدني أو عدم اعتقاد الفرد بأنَّ له دور في النظام ينبغي عليه القيام به.

2- توجهات الخضوع: وتتسم بـ:
– درجة عالية من توجهات الأفراد صوب مخرجات النظام السياسي إدراكاً منهم بتأثيرات النظام السياسي القوية على الحياة اليومية العادية لهم.
– درجة محدودة من توجهات الأفراد صوب مدخلات النظام السياسي إدراكاً منهم بضعف قدرتهم في التأثير عليها.

3- توجهات المشاركة: وتتسم بـ:
– درجة عالية من التوجهات صوب مخرجات النظام السياسي.
– درجة عالية أيضاً من التوجهات صوب مدخلات النظام السياسي اقتناعاً من الأفراد بقدرتهم على التأثير فيها. ومن ثم يضطلع الأفراد بدور فعَّال ويتراوح تقييمهم لأداء النظام السياسي بين القبول العام والرفض التام لأي من مخرجات النظام، ويُعبر الشكل التالي عن هذه الأنماط المختلفة من التوجهات صوب النظام السياسي

خلص الموند وفيربا إلى أنَّ أي ثقافة سياسية على أرض الواقع العملي هي خليط من الأنماط الثلاثة من التوجهات السياسية ومن ثم فأنَّ الذي يميز بين ثقافة سياسية وأُخرى هو كونها تشتمل على قدر من كل من هذه الأنماط الثلاثة من التوجهات. فلا يُمكن أن تقتصر على نوع واحد أو نوعين من هذه التوجهات، بل لا بد أن تتضمن الأنواع الثلاثة من التوجهات بنسبة أو بأُخرى. ومن البديهي أنَّه كلما زادت نسبة توجهات المشاركة في مجتمع ما، كلما كان هذا المجتمع أكثر تقدماً من الناحية السياسية. والعكس صحيح فكلما زادت نسبة التوجهات الضحلة كلما كان المجتمع أكثر تقليدية.

ومن هذا المنطلق يمكن تعريف التنمية السياسية من منظور اقتراب الثقافة السياسية بأنها الإنتقال من وضع يغلب عليه التوجهات الضيقة وتوجهات الخضوع إلى وضع يغلب عليه توجهات المشاركة. فكلما زادت نسبة توجهات المشاركة، كلما ارتفع مستوى التنمية السياسية والعكس صحيح.

مفهوم الثقافة المدنية:

درس كُلاً من الموند وفيربا الثقافة السياسية في خمس دول تتباين من حيث الخبرة السياسية والتاريخية، وهي الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، والمكسيك. وقد خَلُصَ ألموند وفيربا من دراستهم هذه إلى نموذج لثقافة سياسية مثالية أطلقا عليها الثقافة المدنية.

والثقافة المدنية عند ألموند وفيربا – شأنها شأن أيَّة ثقافة سياسية آُخرى، أي هي خليط من الأنماط الثلاثة للتوجهات السياسية، غير أنَّه يغلب عليها توجهات المشاركة. وأقرب ما يمثل هذه الثقافة حسب وجهة نظر ألموند وفيربا هي الديمقراطيات الناجحة والمستقرة نسبياً في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا. وتبدو هذه الثقافة السياسية مناسبة تماماً – من وجهة نظرهما – للنظم السياسية الديمقراطية باعتبار أنَّها تقوم على أساس التوازن بين القوة الحكومية بما تمتلكه دون غيرها من الاستخدام المشروع لأدوات القهر المادي وبين ضرورة إستجابة الحكومة للمطالب المجتمعية من ناحية والتوازن بين الرضا الشعبي والإنقسام من ناحية ثانية، وبين سلبية المواطن وقدرته على التأثير على صانعي القرار من ناحية ثالثة.

وتتحقق مثل هذه الثقافة عبر القوى الجدلية للتغير التي تدفع في إتجاه الانخفاض التدريجي في التوجهات الضحلة وتوجهات الخضوع لصالح الزيادة التدريجية في توجهات المشاركة حتى تصل إلى ثقافة يغلب عليها توجهات المشاركة بدرجة كبيرة حيث يهتم الغالبية العظمى من المواطنين ليس فقط بمخرجات النظام السياسي بل وأيضاً بمدخلاته نظراً لإيمانهم في التأثير عليها.

يتبين من الشكل السابق أن الثقافة السياسية القائمة على التوجهات الضحلة فقط أو توجهات المشاركة فقط لا وجود لها على أرض الواقع العملي. ومن ثم، فهي تمثل طرفي نقيض على خط متواتر تكون الثقافات السياسية للمجتمعات المختلفة ممثلة عليه عند نقطة أو أُخرى بين هذين النقيضين.

ومن غير الممكن أن تقوم ثقافة سياسية ما على توجهات المشاركة وحدها لأنه في مثل هذه الحالة يصبح من حق المواطنين التأثير على كافة مدخلات العملية السياسية ورفض أي مخرج من مخرجاتها، الأمر الذي ينعدم معه التمييز بين المجتمع والحكومة وهو ما يستحيل تحقيقه عملياً.

ولكن كيف يمكن تبرير كل من التوجهات الضحلة وتوجهات الخضوع في مجمع على درجة عالية من التنمية السياسية؟

الواقع أنه يمكن تبرير وجود التوجهات الضحلة أو الضيقة في المجتمعات المتقدمة على أساس أن هناك من الأمور ما يصعب أن تتاح المعلومات بصددها للجميع مثل تلك المتعلقة بأمور الحرب وبالتالي لا يناقش المواطنون كثيراً بصددها، بل يمنحون كامل تفويضهم في هذا الشأن للقيادة الحاكمة. أمَّا بخصوص تبرير وجود توجهات الخضوع فيمكن القول بأنَّ الأفراد والجماعات كثيراً ما يقبلون قرارات حكومية معينة رغم علمهم بأنَّها تضر مصالحهم انطلاقاً من قناعتهم بأن هناك قرارات أُخرى تصدر لصالحهم والتي قد تضر في نفس الوقت بمصالح أفراد وجماعات أُخرى.

الإنتقادات الموجهة إلى اقتراب الثقافة السياسية:

لقد أخفق أيضاً الاقتراب في الوصول إلى نظرية إمبريقية متوسطة المدى ذات قدرة تفسيرية تنبؤية معقولة ومقبولة استناداً إليه، ويرجع ذلك إلى سببين:

الأول: اعترى المنظور الذي انطلق منه الاقتراب بعض النقص والقصور. فقد ركَّز أنصار الاقتراب على جانب المدخلات في النظام السياسي، وأهملوا كلية جانب المخرجات. فإذا كان صحيحاً أن الثقافة السياسية لها تأثيرها على السلوك السياسي، وهو ما افترضه الاقتراب إلا أنَّه من الصحيح أيضاً أنَّ النظام السياسي له تأثيره أيضاً على الثقافة السياسية عبر مختلف أدوات التنشئة السياسية خاصة المؤسسات التعليمية ومختلف أجهزة الإعلام الجماهيري التي يسيطر عليها النظام السياسي، والذي يسعى من خلالها لغرس قيم معينة مرغوب فيها وطمس قيم أُخرى غير مرغوب فيها بما يؤدي في النهاية إلى تغيير في الثقافة السياسية.

وعليه فإن العلاقة بين النظام السياسي والثقافة السياسية ليست علاقة أحادية الإتجاه، حيث يتم النظر إلى النظام السياسي باعتباره متغيراً تابعاً على الدوام، والثقافة السياسية باعتبارها متغيراً مستقلاً على الدوام. والصحيح – وهو ما يدعمه الواقع – أن العلاقة بينهما هي علاقة دائرية على أساس أن النظام السياسي يتأثر بالثقافة السياسية السائدة في المجتمع، ويؤثر فيها في ذات الوقت. وهو ما يجعل كل منها متغيراً تابعاً ومستقلاً في الوقت ذاته.

الثقافة السياسية - الموسوعة السياسية - Political Encyclopedia

الثاني: أنَّ أنصار الاقتراب يؤكدون على تفرد كل نظام سياسي. فمن الصعوبة بمكان معرفة لماذا تتطور النظم السياسية على النحو الذي تتطور به، ولماذا تتباين عن بعضها البعض؟ صحيح أن الثقافة السياسية مسؤولة عن قدر كبير من التباينات بين النظم السياسية. وما لم تؤخذ علاقة التأثير والتأثر الدائرية بين النظام السياسي والثقافة السياسية بعين الاعتبار، وربط كلاً منهما بالأخر على نحو فعَّال فإنَّه من الصعوبة بمكان بناء نظرية سياسية إمبريقية استناداً إلى هذا الاقتراب.

غير أنَّه من الصعوبة بمكان القول بأن اقتراب الثقافة السياسية عديم الفائدة فيما يتعلق ببناء نظرية إمبريقية متوسطة المدى على اعتبار أن التعريف العملى الإجرائي للثقافة السياسية الذي طوره كل من ألموند وفيربا في إطار هذا الاقتراب انطلاقاً من مكونات الثقافة السياسية الثلاثة: التوجهات الضحلة وتوجهات الخضوع وتوجهات المشاركة تعد أداة مفيدة للغاية في إجراء المقارنات. وهو ما يجعلنا نميل إلى القول بأنَّ اقتراب الثقافة السياسية يعبتر محدود الفائدة وليس عديم الفائدة فيما يتعلق ببناء نظرية إمبريقية متوسطة المدى ذات قدرة تفسيرية وتنبؤية معقولة ومقبولة.

شارك المقال إن أعجبك؟

اترك تعليقاً

مقالات مشابهة