“الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع” هكذا قال عبد الرحمن الكواكبي.
الاستبداد حيثما حل، ينشر الفقرَ والضنك والذل والهوان والضعف وضيق الحال وعدم الأمان وتسلط القوي على الضعيف، وبالتالي من السهل على القوى الكبرى أن تتحكم في هذا البلد أو ذاك، فالقوى الكبرى تستطيع عن طريق دعمها للمستبد أن تنهب ثروات شعبه الذي يكتوي بنار الغلاء والضرائب والفساد، سواء كان هذا المستبد في آسيا الوسطى أو أفريقيا أو أمريكا الجنوبية إلخ..
الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر
وفي بعض البلدان، لا يريد المستبد أن يختار شعبُه مرشحيه، لذا فالاستحقاقات الديكتاتورية بالنسبة له، أن يكتفي بأن يقوم بتصعيد بعض الغوغاء والرعاع والمنافقين والفاسدين إلى البرلمانات ومجالس النواب، حتى يظهر للعالم ويقول إن لدي ديمقراطية حقيقية.
الحاكم المستبد كذلك يظن نفسه أذكى الأذكياء والحبر العلامة وكبير المفكرين، وطبيب الفلاسفة وأن حكام العالم يتعلمون منه من خبراته وعلمه وتوقعاته وخططه وتفكيره، ولعل القذافي ومن يسير على منواله خير مثال على ذلك.
هذا المستبد يبحث دائما عن المشروعات التي يظن أنها عملاقة ويحاول تخليد اسمه حتى لو قام بإنفاق الاحتياطي الاستراتيجي من النقد الأجنبي لبلده كاملا على مشروعات لم تكن بلده بحاجة إليها الآن، ولكن ماذا نفعل لمن استبد بالرأي، ويقول “ما أريكم إلا ما أرى”.
ولا يجد المستبد مشكلة في نهب شعبه ونهب أمواله عن طريق زيادة أسعار حتى المنتجات الأساسية حتى لو وصل الأمر للغذاء والدواء والمواد النفطية، وزيادة الضرائب والمكوس وجباية الأموال من الشعب إذا لزم الأمر.
فالوطن بالنسبة إليه ضيعة أو بقرة يحلبها في أي وقت شاء وكيفما شاء، كذلك بعض المستبدين يقومون ببيع ثروات شعوبهم في باطن الأرض مقابل تحصيل بعض الفتات من الشركات الغربية الكبرى والتي يرتبط أكثرها بإسرائيل، وتناسى هؤلاء أنهم يضيعون حق الأجيال القادمة في ثروات بلادهم، بل ويرهنون ثروات أمتهم لعدوهم.
والمستبد يبحث دائمًا عن الإعلام، فهو يدرك أنه وسيلة السيطرة على الشعوب، سواء تقدمت هذه الشعوب أو تخلفت، ولكن كلما كانت هذه الشعوب تعاني من الجهل والأمية الدينية والثقافية، استطاع هذا المستبد أن يتحكم بها ويسوقها كالقطعان عن طريق شبكات من القنوات الفضائية وإذاعات الراديو.
وبالطبع لا ينسى هذا المستبد ومن يدور في فلكه في زمن السماوات المفتوحة، أن يقوم بشيطنة القنوات الأخرى التي تفضح سلوكياته وسياساته الكارثية الاستبدادية والظلامية، وأحيانًا قد يقوم بالتشويش عليها، وهو ما يعني أن الكثير من المستبدين ما زالوا يعيشون في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لأننا بكل بساطة أصبحنا في عصر الإنترنت والإعلام المفتوح.
وقد يفهم المستبد أو هكذا وسوس له شيطانه، أنه لابد أن يستخدم سياسة الترهيب والرأي الواحد و إلا فإنك باعتبارك معارضًا ستحسب ضمن من يستهدف أمن الوطن ووحدته وسلامة أراضيه، فهو يريد أن يخشاه المجتمع وهذا يكون ناتجًا في العادة من عقدة نفسية أو غرور مرضي.
وإن كانت لهذا المستبد خلفية عسكرية، فهي الطامة والمصيبة الكبرى، فهنا سنكون أمام صلف عسكري وعنجهية مستبد مجتمعين، وحينها سيظن أن بلده التي يحكمها، مجرد كتيبة عسكرية أو مختبر لفئران التجارب، وعندها سنرى العجب العجاب، فسيرى مثلا أن اعتقاله لآلاف الأبرياء، وتهجيره لعشرات الآلاف من المواطنين يأتي في سياق عملية الإصلاح، وبالفعل هذا سيكون تصوره لما يقوم به.
عندما يجد الحاكم المستبد نفسه قد غرق في الوحل وأنه أغرق دولته التي وعد أتباعه ومجازيبه بأنها ستصبح محط أنظار العالم ودرة البلدان، سيبدأ في تحميل شعبه ما لا يطيق ومن الممكن أن يدعوه لأن يصبر لعدة أجيال!، والغريب أن الشعب المسكين يرى حجم الفساد الهائل الذي ينخر في دولته، بل وقد يشاهد بأم عينه تنحية المسؤولين عن كشف ملفات الفساد لأنهم هددوا بكشفها.
الكارثة أن المستبد عندما يجد أن الدائرة ضاقت عليه، فإنه لا يجد غضاضة في التخلي عن كل ثوابت الأمة التي ينتمي إليها، بل يجد أن التقرب إلى القوى الكبرى وتنفيذ أهدافها بنفسه، سيعزز من مكانته وأهميته لهم وبالتالي دعمه، وللمفارقة فإن المستبد لا يتعظ بنهاية المستبدين الذين سبقوه إلى مزبلة التاريخ.
وأحيانا يلجأ المستبد في خداع بعض القطاعات البسيطة من شعبه باستخدام الاستمالات العاطفية والنفسية، بأنه عانى لسنوات طويلة من الفقر ومن الممكن أن يبيع نفسه من أجلهم، وذلك بالتأكيد لم ولن يحدث، إلا أن هذا الإعلان منه لا يكون إلا مقدمة لما سيجري فيما بعد، وعندها فقط سيبدأ ببيع ما لا يملكه لمن لا يستحقه، مقابل إنقاذ حكمه، والكارثة أن هناك من سيبرر له أفعاله بحجة “أمن البلاد”.
أطياف الشعب التي أتت بالديكتاتور ستدفع غاليا ثمن صمتها وتأييد الظلم والطغيان بعد مشاهدة الخراب الذي حل بها
ومن الطبيعي أن يهرع المستبد لنصرة أخيه المستبد أينما وجد في البلدان الأخرى، قد ينصره بالمليارات وأحيانًا بالمساعدات وأحيانًا بإنشاء قنوات فضائية لتدافع عن هذا المستبد، والمضحك أن تلك الفضائيات تستخدم شعارات براقة عن التنوير والليبرالية والتقدمية وحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية.
ولندرك جيدا أن “الظلم مؤذن بخراب العمران”، وهذا ما وصل إليه العلامة ابن خلدون، وهذه هي الحقيقة التي نراها رأي العين، فالسنن الكونية لا تحابي أحدا.
ولهذا فأطياف الشعب التي أتت بالديكتاتور ستدفع غاليا ثمن صمتها وتبريرها الذي استمر لسنوات في تأييد الظلم والطغيان بعد مشاهدة الخراب الذي حل بها، وستنضم بالتالي طال الوقت أو قصر إلى الأطياف الأخرى من الشعب التي دفعت هي الآخر الثمن في المعتقلات والتهميش والاضطهاد والتضييق والنفي.
وعندما يدفع الجميع الثمن غاليا، فإن هناك لحظة آتية لا ريب فيها، هي لحظة الحقيقة التي ستأتي لتقول لهذا المستبد ارحل، وكفى تخريبا وفسادا وإفسادا وإسرافا وتجبرا وتسلطا، وسيعلم الحاكم المستبد حينها علم اليقين أنه بات من الخاسرين، وسيلتحق بمزبلة التاريخ من أوسع أبوابها.
وقد ينسى هذا المستبد وغيره، أن القوة لا تدوم وأن الظلم مصيره النهاية فمهما طال الظلام لابد للفجر أن يبزغ، ولابد لنور الصباح أن يضيء هذا الكون بالحرية والكرامة والعدل والمساواة والعيش الكريم، ولكن هذا كله لن يكون إلا إذا غيرنا ما في أنفسنا، و إلا فسيدفع الجميع ضريبة الذل وثمن الاستبداد.