بنية العلاقات الاجتماعية بين التعاقد والتراحم: الاختراقات والأولويات

هل يمكن القول: ان «التعاقد والصراع يزحفان بسرعة نحو مجتمعاتنا ويسيطران علينا»؟ وهل يمكن اعتبار هذه التغيرات التي طرأت على العلاقات الاجتماعية في مجتمعاتنا أدخلتنا – او ستدخلنا ولو جزئياً – في طور «الحداثة»؟ ام ان مجتمعاتنا لا تزال تحتفظ بنموذجها «التراحمي» المبني على خاصيات دينية وثقافية تمكّنها من الممانعة ضد التحديث الكلي على رغم الاختراقات؟ سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات من خلال بحث مفهومي «التعاقد» و «التراحم».

ويمكن شرح «التراحم» بأنه يعني وجود ابعاد غير مادية في العلاقات بين الأفراد، وأنها علاقات انسانية شخصية لا تقوم على المنفعة وحدها، ومن ثم فهي ليست علاقات عقلانية مجردة، أو تعاقدية نفعية محضة، بل هي علاقات عضوية مركبة فالتراحم بهذا ينظم مجموعة من المفاهيم الأخلاقية كالترابط والتعاون والإيثار.

تثبيت المفاهيم

شكلت الأشكال الحضارية والاقتصادية التي سادت في مجتمع ما قبل الصناعة والرأسمالية ارضية وقف عليها علماء الاجتماع الألمان فطرحوا انطلاقاً منها بديلاً للعلاقات التعاقدية التي تهيمن على المجتمعات الرأسمالية. لكن ربما يمكننا القول ان توصيف المجتمع الحداثي بأنه تعاقدي شاع بعد روسو والقول ببناء الدولة على نظرية «العقد الاجتماعي». وفي الأنتروبولوجيا توصف المجتمعات «التقليدية» عموماً بأنها «تراحمية» في مقابل المجتمعات الحديثة «التعاقدية»، وإن كان التعبير غير شائع عن الأنتروبولوجيين في الأوساط العربية.

ويرى المفكر المصري «عبدالوهاب المسيري» ان مفهومي «التعاقد» و «التراحم» معيار للتمييز بين المجتمعات الحداثية والمجتمعات التي تتسم بدرجة عالية من الإيمانية والإنسانية، وأن التمييز بينهما الذي صاغه المفكر الألماني تونيز ثم طوره ماكس فيبر تمييز دال في فهم المنطق الاجتماعي للأمة الإسلامية والأمم الأخرى – خصوصاً الأفريقية والشرق آسيوية – التي لا تعتبر التعاقدية اساس الجماعة وتنزل الروابط الأسرية والقبيلة والدين منزلة مهمة، بغض النظر عن نمط الإنتاج الاقتصادي الذي تتبناه.

وقد اهتمت كتابات ما بعد الحداثة والنقد الماركسي الإنساني للحداثة (مدرسة فرانكفورت) بهذا التمييز واعتبرت الفردانية وغلبة العقل النفعي في ظل الحداثة الصناعية انتقاصاً من الخصائص الإنسانية للفرد ومادية غير مقبولة، ما شكل محضناً لهذين المفهومين، بل ان كتاب هربرت ماركوز «الإنسان ذو البعد الواحد» الذي صدر في بداية الستينات يتصل كثيراً بما نتحدث عنه حتى اشتهر بعنوانه هذا.

غير اننا هنا لا بد ان نميز بين مفهومين للتراحم، فالأنتروبولوجيا حين تصف المجتمعات «التقليدية» بالتراحم تعني ان الروابط فيها تعتمد على تقاليد القرابة والانتماء للجماعة في ظل الأسرة والعائلة والقبيلة، بينما يشكل التعاقد الفردي في الدولة الحديثة الأصل في العلاقات.

وقرْن «التراحمية» بـ «التقليدية» في مقابل «الحداثة» من شأنه ان يهمّش دور الدين او ان يعتبره ثانوياً، فهو يصف كل المجتمعات «التقليدية» بأنها «تراحمية»، لكن سيبدو لنا لاحقاً ان لمفهوم «التراحم» في الإسلام ظلالاً أوسع تُخرجه عن حدود المفهوم الأنتروبولوجي الضيق، وتميزه عن النموذج التراحمي في المجتمعات التقليدية غير الإسلامية (لا ننكر هنا ان لباقي الأديان السماوية اثرها في مفهوم التراحم) حتى ينظم مجموعة من المفاهيم الإسلامية الأخلاقية (بر الوالدين، صلة الأرحام، الإحسان، الأخوة الإيمانية، الحب في الله، الصدقة، الجوار…).

لكنها ايضاً مفاهيم اجتماعية تعكس منطق العلاقات والقيم، وتنبني عليها احكام شرعية وقانونية، فمفهوم التراحم في الإسلام يتأسس على سنن الاجتماع الإنساني والفطرة والأخلاق لكنه ايضاً مفهوم اجتماعي – سياسي يحترم التعاقدية في تنظيم بعض جوانب هذه العلاقات، بيد انه ينظر إليها من اقتراب تنظيم الحقوق وحفظها لا من اقتراب مادي وضعي، فلا يؤسس عليها فلسفة الحقوق ذاتها بل يرتكز إلى وحي هاد وقدوة نبوية راشدة تجربتها تمثل أنموذجاً لامتزاج الأخلاقي بالاجتماعي في تناغم تأسست عليه حضارة فريدة.

المادية… جوهر التعاقد

يقوم التعاقد المحض على الرؤية المادية (بالمعنى الفلسفي) والتي تقع في قلب الحداثة الغربية والتي جنحت إليها الحداثة الغربية في تطورها ومسيرتها من بداياتها الإنسانية المؤمنة التي ترغب في تحرير الدين من فساد الكنيسة والخروج من نفق الحروب الطائفية المظلم الى المنعطف العلماني المتطرف الذي كرس تحرير الإنسان من الدين، وما لبثت الحداثة ان انتقلت من المثالية العقلانية التي تنشد الخير العام عبر المشاركة السياسية ومنظومة الحقوق المدنية الى عقلانية نفعية براغماتية شرسة أسست على التعاقدية بالمعنى النفعي الرأسمالي نظرياتها حول الطبيعة الإنسانية والنظام الاجتماعي الفرداني. بل ان بعضهم عرّف الحداثة بأنها «التخلي عن كل العلاقات الأولية – الكونية، مثل علاقات القرابة والانتماء للقبيلة والعلاقة المباشرة بالطبيعة، وإحلال علاقات غير شخصية مجردة محلها مبنية على التعاقد والمنفعة».

فالرؤية التعاقدية تتسم عناصرها بالتنافر المصلحي، لكن يحدث التجانس عندما يدرك الأفراد ان الحد الأدنى يوشك ان يتهدد فيستعيد توازنه مرة اخرى.

ويلعب القانون بنصوصه الواضحة الدور الرئيس ويتراجع دور العرف والفضل للهامش. وتهيمن في ظل هذا التصور رؤية الإنسان بأنه «ذو بعد واحد» – بتعبير هربرت ماركوز الشهير – إنسان طبيعي – مادي، ومن ثم فالطبيعة تسبق الإنسان.

وهذا التفكير الذي يرى أسبقية الطبيعة على الإنسان يستوعبه فيها ويختزله الى قوانينها ويُخضعه الى حتمياتها بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منها، ومن هنا كان من الطبيعي ان يختفي الحيز الإنساني لهذا الإنسان البسيط «الطبيعي» ويتقدم العقل النفعي على القيم والمثل والمشاعر الإنسانية التي تتراجع الى درجة أدنى وتتسم بالنسبية.

اما الرؤية التراحمية فترى المجتمع باعتباره تركيباً مركباً، تتسم عناصره بالتجانس والتنوع مع الاعتراف بالتعددية والاختلاف، والعلاقات بين الأفراد علاقات مركبة متشابكة لا يمكن التعبير عنها من خلال عقد قانوني واضح (وإن تم احترام مساحات القانون). ورؤية الإنسان هنا انه كائن اجتماعي مركب، متعدد الأبعاد، انسان – إنسان، وليس إنسان – طبيعة ومن ثم فالإنسان يسبق الطبيعة.

الحداثة وما سواها

إنه ليس التنافر والتعارض المعرفي والنسقي بين الحداثة والتقليد كما تتحدث ادبيات ما يسميه اصحابه بالـ «التنوير»، بل هو في الحقيقة بين رؤية صلبة مادية وأخرى عضوية تراحمية فالصراع بين التعاقد والتراحم هنا في صيغته الاجتماعية، من هنا لم يكن غريباً ان الإنجازات العلمية والتكنولوجية أحدثت – ولا تزال – تغيرات اجتماعية لا يتم ترشيد مسارها بدعوى التجريب والنسبية الاجتماعية والأخلاقية، فتكون النتيجة ان ينحسر سلطان الدين والتقاليد والقوانين الأخلاقية لتحل محلها مشاعر الفردية – الأنانية والتناحر في طلب المنفعة. ومع كل ثورة يحققها العقل في مجال التكنولوجيا كان لا بد من حدوث تعديلات ملائمة في الاجتماع والسياسة والثقافة لضمان جدوى التغيير التكنولوجي ونفعه بحيث تتقدم البشرية على قدمين فلا تحقق المكسب المادي وتخسر المكسب الإنساني فتضحي إنجازاتها التاريخية عرجاء منقوصة. والرؤية المادية أبرز ما تظهر في عالمنا المعاصر من خلال العملية الاستهلاكية التي تقوم بتغيير وجه العالم والحياة الاجتماعية وتحوّل العديد من الأمور التي لم تكن أصلاً معدة للتجارة لتصبح سلعة تؤدي الى دخل (التسليع)، بحيث يصبح كل شيء له مقابل، وخاضعاً للتبادل النفعي. وهذا ادى في الدراسات الاقتصادية والاجتماعية الى شيوع التركيز على عملية الاستهلاك والعلاقة بين المنتج والمستهلك – أي الإنسان بوصفه كائناً استهلاكياً! (يُنظر مثلاً دراسة كيفين ميثان، السياحة في مجتمع معولم: المكان والثقافة والاستهلاك) كما ادى الى «إنتاج» و «استهلاك» المكان من خلال صناعات الخدمات، بخاصة السياحة.

وليس غريباً ان مصطلحي «التسلع» و «التشيؤ» ينتميان الى منظومة واحدة مع «التعاقد»، كتجليات للرؤية المادية. وهي على رغم الفروق الدقيقة بينها تلتقي في سياق العلاقات الاجتماعية، فقد ادت الثورة الصناعية الى أن تصبح الحياة الاجتماعية مرتبطة بنوع عمل الإنسان والمؤسسات الاقتصادية اكثر منه بنمط حياة عائلته ومكان ولادته، أي النظر إليه باعتباره جزءاً من عملية الإنتاج لا عضواً في مجتمع او عائلة، ما ادى الى اغترابه نتيجة عزله عن محيطه الاجتماعي، (تشيؤ – تحول الى شيء).

والإنسان المتشيئ يرى خلاصه في البحث الدائم عن اللذة المباشرة، ومن ثم فالسلعة هي «أيقونته الكبرى» بتعبير المسيري، وهكذا يترجم التشيؤ نفسه الى تسلّع، ومن ثم تصبح عملية تبادل السلع هي النموذج الكامن في رؤية الإنسان للكون ولذاته، ولعلاقاته مع الآخرين، ما يعني تحول العالم الى حال السوق (علاقات آلية مجردة اشبه بعلاقات البيع والشراء)، وفي مجتمع السوق هذا يكون «التعاقد» هو الحال الطبيعية للتعاطي مع الآخر. ولذلك كله كان نقد مدرسة فرانكفورت لنظام السوق الذي رأوه هو المسؤول عن عبادة السلع او صنميتها (وبتعبير ماركس» توثّنها) التي أضفت على علاقات الناس بالأشياء وببعضهم طابع السلعة وحصرتها في نطاق المنافع والوسائل المجردة من كل لمسة شخصية أو إنسانية.

من فكرة الحق… الى التعاقد

عودة لإشارتي السابقة الى «العقد الاجتماعي» ارى ان ثمة صلة بين فكرة «العقد» وفكرة «الحق» الغربي، فالحال التعاقدية هي التجسيد الملموس لفكرة الحق الغربي المبني على «المنفعة»، وأن العلاقة بين الأفراد علاقة تناحرية، وهو منشأ القول بـ «العقد الاجتماعي» وابتناء «الدولة» الحديثة إنقاذاً له من حالة التوحش او الفوضى قبل نشأة الدولة (المنقذة).

ومن هنا لم يكن غريباً ان فكرة «الحق» انتشرت في كتابات مفكري نظرية «العقد الاجتماعي» توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، في ظل السعي المحموم الى علمنة الدولة وفصلها عن الدين بعد تجذر الثورة الفرنسية.

وبناء على مفهوم «الحق الطبيعي» في المنظومة الغربية الذي لا دخل للدين فيه ولا يعترف بالنشأة الطبيعية التطورية للمجتمع السياسي ودور النبوة والرسالات السماوية فيه، تمت اعادة صوغ نمط العلاقات بين الأفراد، خصوصاً مع تحول مفهوم «السلطة» من المؤسسات التقليدية (الكنيسة بل الدين كلاً بعد فصله، والأسرة، والنظام الاجتماعي) الى الدولة فباتت هي المستند القانوني لهذه العلاقة «الحقوقية» وصاحبة المرجعية وفق القانون الذي تُقرره غالبية الأفراد، وهنا يمكن فهم الإلحاح على اتفاقات حقوق (الإنسان ثم المرأة، ثم الطفل، والشواذ…) تأسيساً على العلمنة، وكنتاج للحال التعاقدية، ويمكن اللجوء الى الدولة لصون حقوق الأب والأم والابن، كل منهم ضد الآخر بالتوازي، ومن هنا تقلص دور «الأسرة» النواة الرئيسة لعلاقة التراحم مع وجود الحال التعاقدية ومؤسسات اخرى تقوم بدورها كالمدرسة والإعلام بإشراف الدولة. وهنا يمكن فهم «الفراغ العاطفي» الذي تحدث عنه كثيرون كميشيل هواليبيك على انه تجلّ من تجليات الحال التعاقدية في حين اخذ عند الحديث عن «مجتمع السوق» شكل «الاغتراب».

ولم يكن نتاج «مجتمع السوق» الذي وعد بالحرية والسعادة والأمن سوى «الاغتراب» وعدم اليقين، بل وتفشي العنف المدني رغم محدودية العنف السياسي لسيطرة الدولة، اللهم إلا عنفها هي «المشروع» ضد الخارجين عليها، أو عنفها الحربي ضد الآخر، عدواناً أو إمبريالية منظمة.

التعاقد… وتلبيس المفاهيم

فكرة الحق الفردي هذه، والتي هي أساس الحالة التعاقدية، دفعت بعدد من المفاهيم الى تحولات مختلفة لتوائم الرؤية الجديدة للعلاقة بين الذات والآخر، فالمرأة هي ذلك الفرد لا العضو في أسرة، ومن ثم يتم التركيز على حقوقها استناداً الى الحالة التعاقدية وامعاناً فيها. وازدراء «الأمومة» يأتي من كونها لا تتفق مع التعاقد، ومن هنا كان العزوف عن «الانجاب» أو حتى الزواج الشرعي/ القانوني، وتحول العلاقة مع الرجل الى مفهوم «المتعة» التي تتساوى فرصة المرأة والرجل في الحصول عليها ويتساويان فيها (علاقة تبادل، لذة مقابل لذة) وهو ما سجله استطلاع جرى أخيراً على مطالب المرأة الايطالية. والعمل المنزلي لا قيمة له وليس «عملاً» لأنه من دون مقابل، ما يعني أنه لا يتفق مع الحالة التعاقدية. بل ان العلاقة بين الرجل والمرأة كثيراً ما تم تصويرها على انها علاقة تناحرية تعاقدية، ولذلك جاء كثير من مطالب الجمعيات النسوية منسجماً مع هذا التصور. وتلح النسويات العربيات على «بنود» حقوقية للمرأة تأخذ شكل الصيغة القانونية وضرورة فضح العنف ومقاضاة الزوج به و… ما يعني تحويل العلاقة الزوجية الى حالة التعاقد بوعي أو بغير وعي!

من التراحم الى التعاقد

لكن هل يمكن الآن في زمن العولمة مع حديثنا عن صراع بين التراحم والتعاقد تصنيف ما هو تعاقدي من المجتمعات وما هو تراحمي؟ أعتقد ان الأمر أكثر تركيباً من هذا التبسيط، وقد جَهَد المسيري – وله السَّبق – في تحليل المجتمع الأميركي والمصري من خلال تجربته الشخصية في مواقف متعددة ليصل الى أن المجتمع الأميركي – باعتباره يمثل أوج الحداثة – مجتمع تعاقدي، في حين ان المجتمع المصري مجتمع تراحمي. ومع ذلك لم يستطع القول ان واحداً من المجتمعين هو بأجزائه على هذه الصفة أو تلك، فهو تناوله ككل من خلال النماذج التحليلية، ولم يدرس التفاصيل المتناثرة، وحياة الأفراد أكثر تركيباً وأكثر انسانية من النموذج الادراكي الحاكم، ولذا توجد في المجتمع الأميركي نفسه جيوب تراحمية كثيرة، كما يقر بذلك المسيري نفسه.

هذا يعني أنه من الصعب صبغ مجتمع ما بأكمله بأنه تراحمي أو تعاقدي، لكن يمكن الحديث عن نموذج حاكم في المجتمع، وبقدر دخوله في الحداثة وتبني أفراده لمفرداتها، يكون تعاقدياً، وبالعكس. واذا كان لا يمكننا القول: ان مجتمعاتنا العربية مجتمعات تراحمية خالصة بسبب اختراقات الحداثة، والدخول – وان بقُدر مختلفة – في عالم السوق، فإنه أيضاً لا يمكن القول ان التعاقد سرى فيها كلها، أو في كل فئاتها، فهو قد يكثر في مجتمع دون آخر، وقد يكثر في فئة دون أخرى وفي مجال مهني دون آخر، وهكذا. فهو لا يزال يحتفظ بخاصيات دينية وثقافية تمكنه من الممانعة ضد التحديث برغم الاختراقات، وما زال الانسان يقاوم المادية هنا وفي كل المجتمعات بأشكال وصور متنوعة تنوع الثقافات ذاتها.

ولنأخذ مثال التحولات التي طرأت على الأسرة العربية وانشطار الأسرة الممتدة الى مجموعة من الأسر النووية – لا نزال نبحث في مفهومها الانتربولوجي – ومع ذلك بقيت الأسرة كبنية محتفظة بعلاقاتها وروابطها. البعض يرهن هذه التحولات التكوينية للأسرة في الجزيرة العربية مثلاً ببداية السبعينات مع دخول الأقطار الخليجية مرحلة ارتفاع أسعار النفط وتحقيق فوائض عالية وقيام الصناعة، وهي بدايات تحديث المجتمع الذي طاول شكل الأسرة، وأحدث بعض «الاختراقات» على مستوى العلاقات، لكن لم يُسجل تبدل في منظمة القيم تجاه العلاقة بين الأبوين والأولاد، على الأقل، فلا تزال القيم الدينية حاكمة على مستوى الأسرة النووية، وان كنا نجد ان الانشطار الذي أصاب الأسرة الممتدة أضعف قوة العلاقات خارج الأسرة النووية بالمقارنة بالماضي، إضافة الى متغيرات الحياة وتعقيداتها المتزايدة وضغط ايقاعها اليومي المتسارع. 

وهنا لا بد أن نسجل ملحوظة وهي ان الضبط الاجتماعي (من خلال علاقات العائلة الممتدة والجيرة والحي حيث الكل يشعر بالمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية تجاه أولاد الحي) الذي كانت تتمتع به المجتمعات التقليدية الخالصة خفَّ مع الدخول في التحديث الذي طاول المدن والعلاقات، ولكن هذا لم يكن بسبب انشطار الأسر الممتدة فقط، بل بفعل تغول الدولة، وتعدد مصادر التربية والتثقيف (سلباً وايجاباً) الرسمية وغيرها من وسائط تشكيل الوعي كالإعلام والفضائيات والشبكة العنكبوتية.

ولا شك أن هذه التحولات الجزئية تسجل لصالح المفهوم الانتربولوجي. وربما تحمل على الاعتقاد – مع المسيري – بأن «التعاقد والصراع يزحفان وبسرعة نحو مجتمعاتنا ويسيطران علينا، ولعلهما قد يُحكمان قبضتهما علينا خلال سنوات عدة» معتمداً على مقولة/ نموذج: «وآسف دي أصرفها في أي بنك؟!»، بل ان أحمد أبو زيد كان توقع نشأة نسق جديد من القيم في القرن الواحد والعشرين، من ضمن هذا النسق أنه «ستزداد داخل المجتمع الواحد النزاعات الفردية على حساب الشخصية الاجتماعية المتماسكة، وبذلك تزداد حدة التنافس أو الصراع الداخلي بين الأفراد كوسيلة لتحقيق المكاسب الشخصية الخاصة».

ان هذا التصور يبدو ممكناً ومقنعاً من الوجهة الانتربولوجية لكن لا يمكننا تجاهل تأثير قوى مختلفة في المجتمع، أبرزها وأشدها الدين الذي يبقى على الدوام مشدوداً الى ثوابت ومطلقات، وكذلك لا بد من الاعتراف بصلابة المؤسسات الدينية التقليدية ودورها في هذا، وممانعتها ضد اضفاء مشروعية على التحديث على رغم كل التحديات، على ما في ذلك من سلبيات على الاجتهاد والابداع الفكري وأصعدة أخرى. فلا يزال خطيب الجمعة – مثلاً –في الجمعات والعيدين والمناسبات كلها يتحدث عن بر الوالدين، والاحسان الى الجار، وصلة الأرحام، و… ما أود قوله: ان حجم المتغيرات بالنسبة الى حجم التحديات لا يزال قليلاً والحمد لله. ثم اذا كان هناك بعض العبارات التعاقدية فبماذا نفسر الظواهر الاجتماعية المتأصلة في مجتمعاتنا كمجالس العزاء وعيادة المريض وبر الوالدين وصلة الأرحام، وعلاقات الجوار، وغير ذلك؟ بل بماذا نفسر عدداً من عبارات التراحم في مجتمعاتنا التي يقابل بها صنيع المعروف كتلك المتداولة في الشام مثلاً «اعمل معروف»، و «زكاتك» وغيرها، وبالتأكيد لها نظائر في باقي الدول، وهي صيغ تراحمية مشبعة بحمولات دينية ظاهرة.
 

شارك المقال إن أعجبك؟

اترك تعليقاً

مقالات مشابهة