* قبل أن يحتار القارئ ويسأل سؤاله المعروف: هل الكاتب مع التعدد أم ضده؟
سأجيبه: الكاتب وقت كتابة هذه الكلمات معه ثلاث زوجات، لكنه في ذات الوقت لا ينصح كل رجل بالتعدد وقتما يشاء، وأعتبر الزواج مثل الطعام والشراب، يتناوله من هو بحاجة إليه، ولا يأخذ منه إلا على قدر حاجته، فإن كان مريضا أو عنده مشكلة ما تحول بينه وبين طعام معين أو الأكل في وقت معين.. فعليه أن يمتنع عن الطعام آنذاك. (ولا بأس بعد ذلك بأن أُتَّهم بالذكورية).
في أحد المجالس الاجتماعية قام أحد الحضور بتوجيه سؤال مباشر لي: “لماذا أنت مُعَدِّد؟”
فأجبته بتلقائية: لأني رجل.
ولم يدر بخلدي اتهام البقية بشيء، على قدر ما كان هدفي هو الخروج من قفص الاتهام الذي يحاول السائل وضعي فيه، حيث إنني لا أجد لهذا السؤال محلا من الإعراب إلا إذا كنا نرى أن فكرة الزواج برمتها تحتاج لبيان أسبابها.
كثرة الحروب تؤدي إلى وجود فارق شاسع بين عدد الرجال وعدد النساء في أي مجتمع، واقتصار الرجل على زوجة واحدة سيؤدي حتما إلى بقاء عدد كبير من النساء بلا زوج |
لكن يبدو أن جوابي بالفعل كان يحمل اتهاما للحاضرين، فَرَدّ أحدهم بعفوية: (إحنا كمان عاوزين نعمل زيك، لكن مش قادرين)، وهذا يؤكد أن الأمر فطرة عند الرجال، لذلك يفتخر الرجال بكثرة زوجاتهم كما تفتخر المرأة بأنها عاشت حياتها ولم يمسَّها أحد غير زوجها.
* وقد يسأل القارئ سؤالا آخر: لماذا تتكلم في موضوع تعدد الزوجات الآن في ظل المشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية في الوقت الراهن؟
أقول: حديثي عن التعدد الآن ليس خارجا عن السياق العام لمشكلات الأمة التي تبحث عن حل، بل إن التعدد في ظل الحروب الطاحنة التي تستهلك آلاف -بل- ملايين الشباب الآن في سوريا والعراق وليبيا واليمن وأفغانستان وفلسطين فضلا عمّا يدور في مصر وغيرها ليستوجب منا البحث عن حل لمشكلة النقص في عدد الرجال للوفاء بمتطلبات العملية الجهادية التي تحتاج المزيد والمزيد، والتي يعلم الله وحده هل ستنتهي في وقت قريب، أم أنها مستمرة إلى ما شاء الله، فضلا عن كون عملية التعدد وما يترتب عليها من التماسك المجتمعي تكون سببا على ثبات هذه المجتمعات في مواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية المترتبة على هذه الحروب.
كما أن كثرة الحروب تؤدي إلى وجود فارق شاسع بين عدد الرجال وعدد النساء في أي مجتمع، واقتصار الرجل على زوجة واحدة سيؤدي حتما إلى بقاء عدد كبير من النساء بلا زوج، أو يضطر الرجل إلى طلاق امرأته إذا رغب في الزواج من أخرى، وبما أن قانون الحياة قائم أساسا على الموازنة بين المصالح والمفاسد، فالطبيعي هو القبول بفكرة التعدد رغم سلبياتها التي سأتكلم هنا عن بعضها، حيث إن سلبيات إلغائها أكبر بكثير، والتي تتمثل في:
* انتشار العنوسة بما يصاحبها من عُقَد وأمراض نفسية، فتصبح المرأة عبئًا على المجتمع، فضلا عن ضعفها أو عجزها عن إفادته.
* وجود نساء كثيرات مطلقات وأرامل معهن أولاد يحتاجون إلى رجل يرعاهم ويقوم على شؤونهم، وقد يدفعهن ذلك إلى السؤال أو الانحراف.
* تفشي العلاقات المحرمة خارج إطار الشرع والقانون، كما هو الحال في الدول التي تمنع التعدد.
* قلة عملية النسل والإنجاب كما هو حال المجتمعات الغربية الآن.
* ضعف الروابط الاجتماعية التي تنشأ في المجتمعات التي ينتشر فيها تعدد الزوجات إذا ما تم إلغاؤه.
تعالوا نتفق أولا أن فكرة الزواج برمتها داخلة في إطار المسؤولية المشتركة بين الرجل والمرأة، وأن الأمر ليس مجرد متعة ولذة يشعر بها الطرفان بعد إتمام الزفاف، ف “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه، الرَّجُلُ رَاعٍ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا” كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذه المسؤولية لابد لها من قدرات وإمكانات نفسية ومادية وجسدية. ففي الحديث “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّج” وفي رواية “مَن كَانَ مِنْكُمْ ذَا طَوْلٍ فَلْيَتَزَوَّج”.
* وإذا كان أول ما يتم التحايل به على منع التعدد هو عجز الرجل صاحب الزوجات عن العدل بينهن؛ فهنا لابد من التذكير بأن الله الذي قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} لم يقل بعدها فلا تُعَددوا، بل قال: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}. قال ابن كثير في تفسير الآية (لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن حصل القسْم الصوري: ليلة وليلة، فلابد من التفاوت في المحبة والشّهوة والجماع، (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) فتبقى هذه الأخرى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة) اهـ بتصرف.
كما أن المرأة التي تهرب من عدم عدل الرجل معها إذا تزوج عليها بالطلاق أو برفض الزواج من المتزوج، فإنها تقع في براثن ظلم أشد من المجتمع الذي ينظر للمُطلَّقة والعانس نظرة إهانة وانتقاص!! وغالبا ما تلجأ المرأة التي طُلّقت بسبب زواج زوجها من غيرها أو تأخر سن زواجها إلى الزواج من رجل آخر متزوج، فتكون قد انتقلت من شرٍّ (كما تعتقد) إلى شر مثله أو أكبر منه.
فكرةَ الزواج برمتها بما فيها التعدد فطرةٌ بشرية وطبيعةٌ إنسانية، والإسلام جاء بتقييدها وضبط جماحها وليس ابتداء تشريعها |
* أما مسألة ظلم المرأة والاعتداء على حقها، فليست مختصة بوجود التعدد من عدمه، حيث يظهر أن وقائع ظلم المرأة وهي واحدة مع زوجها قد تكون أكثر وأكبر من تلك التي يتم تضخيمها لحالات فيها تعدد زوجات، فهل يسوغ لأحد أن يمنع الزواج نفسه بحجة ما تتعرض له المرأة من مظالم على أيدي الأزواج!! أم نعالج مشكلة الظلم نفسها دون الاعتداء على ضرورة حياتية كالزواج؟
ولست أكون مبالغا إذا قلتُ إن عامة ما اتُّهِم التعدد به، قد حصل مثله وأكبر منه في بيوت ليس للرجل فيها إلا زوجة واحدة، مثل التقصير مع الزوجة والإهمال في شأن الأولاد، فالرجل المشغول بأمور وظيفية أو علمية أو ما شابه ذلك يصيب أسرته الكثير من الخلل والقصور في أمور الرعاية والمتابعة، فلماذا يكون التعدد هو المتهم الأول والأوحد في هذا الإطار؟! ولماذا يتم تمرير أي خلل أو قصور بسبب سفر الرجل للعمل وغيابه عن زوجته وأولاده بالسنوات، ولا يُغتفر غياب الرجل عن بيته يوما أو يومين بسبب زوجاته الأخريات؟!
وأحب أن أذكر هنا موقفا حصل مع ولدي، حيث له صديق يعمل والده في بلدة أخرى، وفي أحد الأعياد لاحظ ولدي وجود لعب وهدايا كثيرة عند صديقه، فقال له: هنيئا لك كل هذه الألعاب التي يرسلها لك أبوك. فرد صديقه قائلا: هذه الهدايا لا تساوي شيئا مقابل وجود أبيك معك في أيام العيد رغم تعدد زوجاته.
* من الأخطاء التي يقع فيها بعض المتحمسين لفكرة تعدد الزوجات، قولهم: إن الإسلام هو الذي شرع التعدد، وبالطبع يترتب على ذلك عدم جواز رد هذا التشريع الرباني أو حتى مناقشته من جانب المصالح والمفاسد!!
وهذا في الحقيقة غير صحيح؛ حيث إن فكرةَ الزواج برمتها بما فيها التعدد فطرةٌ بشرية وطبيعةٌ إنسانية، والإسلام جاء بتقييدها وضبط جماحها وليس ابتداء تشريعها. فقد كان التعدد موجودا على مدار التاريخ قبل وبعد بعثة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، حتى إن الرجل كان يأتي يريد الإسلام، فيقول: عندي عشرة من النساء. فيأمره النبي عليه الصلاة والسلام بإمساك أربعة وفراق ما زاد على ذلك. بما يعني أن الإسلام جاء بتضييق هذا الباب وقصره على أربع زوجات فقط، بشرط القدرة والعدل بعدما كان مفتوحا على مصراعيه بلا ضابط ولا رابط.
وقد ورد في التوراة أن نبي الله سليمان عليه السلام كان متزوجا من سبعمائة امرأة، وثبت في الحديث أنه عليه السلام قال لأَطُوفنّ الليلة على مائة امرأة. وزواج إبراهيم عليه السلام من سارة وهاجر معروف مشهور. وقال نيوفلد في كتابه قوانين الزواج عند العبرانيين: إن التلمود والتوراة قد أباحا تعدد الزوجات على إطلاقه. وذكر الدكتور محمد فؤاد الهاشمي (كان نصرانيا وأسلم) في كتابه الأديان في كفة الميزان: أن الكنيسة ظلت حتى القرن السابع عشر تعترف بتعدد الزوجات. بل ذكرت مجموعة من الأبحاث والدراسات التاريخية المعاصرة أن التعدد كان منتشرا عند الفراعنة والرومان والفرس واليونان وغيرهم من الأمم السالفة.
وجوابا على السؤال المشهور: لماذا ينتشر التعدد بين السلفيين دون بقية التيارات الإسلامية؟
أقول: إن فكرة التعدد تتأثر بالثقافة المجتمعية سلبا وإيجابا، ولو سئل أي رجل أيا كان مذهبه أو انتماؤه عن فكرة التعدد لَقَبِلها، ولو سُئِلَتْ أي امرأة عن الفكرة نفسها لرفضتها. لكننا نرى التعدد منتشرا في الأوساط التي لا تعتبره سُبَّةً للرجل ولا مهانة للمرأة.
وقد يكون اشتهار فكرة أن السلفيين يعددون سببا في تهيئة المرأة التي تقبل الزواج من رجل سلفي للتعايش مع التعدد، ولو نظرنا إلى المجتمعات البدوية والخليجية لوجدنا التعدد منتشرا بينهم رغم عدم التلازم بينهم وبين الفكر السلفي، بل إن بعض ليبراليي الخليج يعددون تماشيا منهم مع ثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه.
ولو أن مجتمعاتنا أخرجت فكرة التعدد من قفص الاتهام، وتركت كل إنسان يعبر عن عواطفه ومشاعره بدون حساسية ولا حرج لتغيرت نظرة الأجيال القادمة إلى التعدد، ولساهم ذلك في عودته وانتشاره مرة أخرى خارج الإطار السلفي.
ولننظر بعين الاعتبار إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “حُبّب إليَّ من دُنْيَاكُم الطِّيبُ والنِّسَاء” ولما سئل عليه الصلاة والسلام “مَن أحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَة. قِيلَ مِنَ الرِّجَال؟ قَالَ: أَبُوهَا”. يعني لم يقل أبو بكر، بل قال “أبوها” تعبيرا عن شدة حبه لها رضي الله عنها وعن أبيها.
لابد لمن يرغب في التعدد أن يراعي عاطفة النساء (التي هي ميزة وليست عيبا) عندما تظهر في مثل هذه المواقف الحساسة، وعدم مراعاتها قد يحول التعدد من نعمة إلى نقمة |
وكيف كان -بأبي هو وأمي- يعبر عن تعلقه بخديجة بنت خويلد رضي الله عنها حتى بعد وفاتها، حيث كان يسمع صوت أختها هالة بنت خويلد فيبدي سعادته بذلك لأنها تذكره بخديجة. فلماذا نعتبر تعبير الرجل عن حبه للنساء سُبَّة؟! ولماذا نرمي المرأة التي يرغب زوجها في الزواج عليها والمرأة التي تتزوج من رجل متزوج بالنقائص والعيوب؟!
كثير من أصدقائي يطلبون مني أن أبحث لهم عن زوجة ثانية، لكني أُفَاجِئُ الكثيرين منهم بقولي: لا أنصحك بالتعدد حاليا على الأقل!! خاصة عندما أراه يرغب في زواج سِرِّيٍّ غير مُعْلَن، لأن هذا الزواج غالبا ما يبوء بالفشل، أو يؤدي إلى هدم البيت الأول، وكلاهما غير مرغوب فيه عندي، ولا أرى الزواج السِّرِّيَّ محققا لمقاصد الشرع من التعدد، فبالإضافة إلى استشعاري عدم قدرة صاحب هذا الطلب على تحمل المسؤولية، أراه كذلك سيؤدي إلى ظلم إحدى الزوجتين إن لم يكن كلتيهما.
كما أنني لست أزعم ولا أدعي أن تعدد الزوجات هو الجنة التي لا نَصَبَ فيها ولا وَصَبَ، ولا أقول إن حال المعددين خالٍ تماما من المشكلات والمنغصات، بحيث أنصح صاحب كل مشكلة مع زوجته بالتعدد، بل إنه مثل أي مجتمع فيه ما فيه من المشاكل، فلابد لمن يقدم عليه أن يكون مستعدا للتعامل مع طبيعة النساء التي تحمل من الغيرة على زوجها ما قد يدفعها لفعل أي شيء مهما كانت عواقبه.
فهذه أحب النساء إلى رسول الله (عائشة) في أطهر البيوت وأتقاها لله (بيت النبوة) تكسر قصعة فيها طعام أرسلتها أم سلمة مساهمة منها لإكرام ضيوف النبي عليه الصلاة والسلام في بيت عائشة، ورغم أنها فعلت ذلك أمام جمع من الصحابة، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتوى الموقف بقوله “غَارَتْ أُمُّكُم، غَارَتْ أُمُّكُم” وقام برد قصعة سليمة من بيت عائشة مكان التي كسرتها لأم سلمة.
ولا أظن موقفا كهذا يمكن أن يمر بهذه البساطة إذا حدث في بيت أحدنا من معددي الزوجات. لكنه يعبر عن أهمية الاتزان والقدرة على ضبط النفس والحكمة الشديدة عند الرجل الذي يبحث عن تعدد الزوجات. فلابد لمن يرغب في التعدد أن يراعي عاطفة النساء (التي هي ميزة وليست عيبا) عندما تظهر في مثل هذه المواقف الحساسة، وعدم مراعاتها قد يحول التعدد من نعمة إلى نقمة، وبيوتَ المعددين من سعادة إلى جحيم.
كما أَلفِت هنا إلى ضرورة عدم التضخيم من أمثلة ناجحة لتعدد الزوجات لكنها على خلاف الأصل والطبيعة البشرية -وإن كانت موجودة-، كالمرأة التي تُزوّج زوجها بصديقتها، والأسرة التي يقيم فيها عدد من الزوجات مع زوج واحد في بيت واحد، فهذه نوادر والنادر لا حكم له، وينبغي أن نكون واقعيين حتى لا نتسبب في أزمات ومشكلات بسبب تصوير الأمر على غير حقيقته. فالأصل هو أن يتزوج الرجل على غير رغبة زوجته، وأن تقيم كل واحدة في بيت لا ترى ولا تعرف ما يفعله زوجها مع الأخرى.
قلت قبل هذا إن الأمر صعب في الجملة، فالمرأة الواحدة تقبله أحيانا وتمرره على مضض أحيانا وترفضه بتاتا أحيانا أخرى، وهذه سارة زوجة إبراهيم عليه السلام، هي التي تهبه سارة، ثم تغار منها بعد ولادتها لإسماعيل، فالغيرة أمر أصيل ومحمود في نفس الوقت عند المرأة، لكن مما يسهله عليها أن تضع نفسها مكان المرأة الأخرى التي هي بلا زوج وتبحث عن رجل يعفها ويسترها ويتولى أمرها، وقد أثبت التاريخ والواقع تعايش المرأة مع أمر التعدد، وكلما انتفت من الثقافة المجتمعية فكرة اتهام التعدد أو اتهام المرأة التي يتزوج عليها زوجها بالنقص والعيب كلما سهل ذلك الأمر على المرأة، حيث إنها دائما ما تسأل نفسها سؤالا فحواه “وماذا سيقول الناس عني؟” فكلما وجدت جوابا سهلا على هذا التساؤل، كلما كان تعايشها مع هذا الأمر أسهل وأيسر.
والله من وراء القصد